فتحت ستائر غرفتي حين استيقظت لأترك للشمس أن تنتهك حرمة الظلام الذي كان يحكم غرفتي، نظرت إلى رفيقي وهو نائمٌ في سريره وصحت له بأن يستيقظ:
“قم! قم! فاليوم أجمل من أن يضيع في النوم.”
نظر إلي بنظرة قاتلة ودعاني لأتركه يكمل نومه لأنه لم ينم إلا متأخرًا ليلة البارحة، كيف لي أن أعرف وأنا الذي أكملت نصف يومٍ نائمًا. استحميّت وتجهزت وصليّت متجهزًآ لهذا اليوم، هناك شعورٌ غريب بأن هذا اليوم سيكون يومًا استثنائيًا حقًا. اتصلت على بعض الأصدقاء علّنا نتناول لقمةً تطفئ ألم الجوع الذي اجتاح يقظتي، من حسن حظي لقيت صديقين عزيزين بيني وبينهم ذكريات عزيزة وذليلة ودعوتهم لتناول الغداء ووافقوا.
انطلقنا إلى أحد مطاعم المدينة، أحب أكل ذلك المطعم، لن تدفع الكثير من المال وستحظ على وجبة كبيرة ولذيذة ومشبعة. جميلةٌ هي الأحاديث حين يكون بالك مرتاح وعقلك كذلك. تناقشنا في الأمور العادية التي يتناقش فيها أي صنف من الشباب، الفتيات وكرة القدم. ما انتهينا من وجبة الغداء إلا قال أحدهما: “لا تنسون، هذه السنة الرابعة.” لم أعرف أي سنة يقصد حتى تذكرت وزاد الشعور الغريب لدي. اجتمعنا في سيارة رفيقنا وقررنا أن نتجول بالسيارة حتى المغرب. صالح شخصٌ متهوّر ولا نعلم لماذا نسمح له بأن يكون هو السائق دائمًا، لعله الكسل وكرهنا في القيادة هو السبب الرئيسي، ولكن مع ذلك أعتقد بأننا لم نعد مهتمين بحياتنا ونحن نسمع عن حادثٍ كل ثانية وأخرى، وكأنما صدقنا بأن المتهور لا يحصل له مكروه. معتقد غبي، أعلم ولكننا لسنا بالذكاء الذي نعتقده. تجاوز صالح الإشارة حين احمرّت وكأنه يملك الشارع “صالح! انتبه!”
ثوانٍ قليلة كانت بيننا وبين أن ننتهي داخل صندوق، تبًا لك ياصالح، كاد أحد المتحمسين من الجهة الأخرى أن ينهي حياتنا. لا أعتقد بأني سأموت قريبًا على كل حال، أؤمن بالقضاء والقدر، وأؤمن بأن أي منا قد يموت في غمضة عين ولكني لا أشعر بأني سأموت قريبًا ولذلك لم أعد أهتم بحياتي، حتى تعنيفي لصالح لم يكن إلا عادة مني لتعنيفه على أي خطأ منه. لأثبت لكم أننا لم نعد نهتم بحياتنا، محمد لم يعنّف صالح وإنما يبدو على وجهه الضيقة لسببٍ ما، هل كان صالح السبب في هذه الضيقة حين ذكر السنة الرابعة؟
وصلنا لذلك الشاطئ المهجور، لا يبدو مهجورًا الآن، لم تعد إليه الحياة إلا السنة الماضية بسبب أن أحد المشاهير مثّل حلقة من أحد مسلسلاته الكريهة في ذلك الشاطئ. كنا نحب ذلك الشاطئ. تفرقنا، ذهب محمد إلى الجهة الأخرى من الشاطئ لأنه يعتقد أنه رأى قريب له، وذهبت أنا لأحضر بعضًا من الشاي والمأكولات الخفيفة.
*صوت طلق نار*
دمية معلقة على طرف الجدار الذي يفصل بين الشاطئ وأحد ممتلكات التجار الجشعين، في منتصف منطقة الجبهة رصاصة نارية، لا أثر لمطلق النار!
أصوات بكاء وخوف من الأطفال والنساء، والرجال يدعون عوائلهم ليركبوا السيارات. مالذي حصل؟ الوضع غريب، أصوات سيارات الشرطة يرتفع، حوطّوا المنطقة، ودعوا الجميع بأن يبقوا في أماكنهم وأن الذي يحاول الهرب سيطلق عليه النار. نظرت حولي، تصنموا جميعهم، أتى ضابط نظر إلى عيني وقال: “علي، ارفع يديك للأعلى واثبت مكانك، لا تحاول تهرب” نظرت حولي لعلّ الضابط اخطأ ولكنه هاجم علي بغتة وألقى بي أرضًا دون أن ألفظ حتى بكلمة. كبلّ يدي وأنا اسأله بأي حق اعتقلت؟ ويرد علي بأني سبب في الإطلاق. بربك، بأي حق أطلق علي؟ “ليش ماتسأل اللي كنت أشري من عنده البليلة يعني؟” ويرد علي الضابط بأن يشد على يدي ويدعوني للصمت “كل شيء بيتصفى في القسم” سحبني إلى سيارته وانطلقنا إلى مكان لم أره من قبل، هل هذا هو السجن الذي كانوا يتكلمون عنه؟ لماذا لم يأخذني إلى القسم؟ “ياضابط، وين القسم؟” ويرد علي “جانا أمر نأخذك للسجن على طول!” في أي جحيمٍ أنا؟ هل هل هذا ماكنت أشعر به؟ الشعور الغريب؟ تبًا! هل أنا أحلم؟ أين رفاقي؟ “ياضابط هل أعلمتم رفاقي على الأقل؟” ويرد علي “رفاقك في السجن أيضًا!” هل هذه مزحة ثقيلة من صالح؟ تبًا له، تعودت فعلاته السيئة ولكنه تفوّق على نفسه هذه المرة!
أنزلوني من السيارة إلى مدخل السجن…
“أنا بريء!”
أنا بريء!
أنا بريء!
يبدو أن صرخاتي لا تجدي، مازلت أسحب إلى زنزانة غريبة… لم أتوقع أن مقلب السنة الرابعة سيكون بهذه القوة والصلاحية!
أريد أن أظهر لهم خوفي حتى يعتقدون أني خائفٌ حقًا وينهون هذا المقلب التافه.
رُميت في زنزانة مظلمة، بجانبي شخصين لا أستطيع رؤيتهما بسبب الظلمة.
“علي، أهذا أنت ياعلي؟” - ناداني محمد
محمد، هل يعقل أن هذا محمد؟ كنت أريد أن اسأله عن صالح لكي يوقف هذه المهزلة.
“علي، صالح انضرب… ضربوه الشرطة” - قالها محمد
للتو انتبهت أن صوت التأوّه كان صادرًا من صالح، لابد أنه يمزح ويمثّل.
“علي، ذا موب مقلب، صحصح. حنا انسجنا، يقولون مسكوا المسدس مع صالح وعليه بصماتنا.”
أي مسدس؟ أي بصمات يتحدث عنها؟ أي جحيم هذا المقلب؟ يارباه، إن كان هذا حلمًا فأرجوك اليقظة وإن كانت حقيقة فأفرجها من عندك ياكريم!
يدخل ضابط ويمسك بصالح، ويحقق معه أمامنا.
“صالح، اعترف بأن أنك الذي أطلقت وسيخف عليك الحكم وسنطلق سراح رفاقك.”
“بس… بس… موب أنا اللي أطلقت” يرد صالح متألمًا.
استمر التحقيق على هذا المنوال، الضابط يسأل صالح وصالح ينفي. أخرج الضابط مسدسه وضرب بكعب المسدس في رأس صالح ليخرّ صالح مغمى عليه.
اتجه الضابط إلى محمد، وبدأ التحقيق معه عن أين كان وماذا كان يفعل، ولماذا لا يعترف بأن صالح هو اللي أطلق النار وأن ذلك السلاح هو لصالح وسيخرجنا ويعاقبون صالح على فعلته، إلا أن محمد أبى وحلف يمينًا أنه السلاح ليس لنا ولم يره من قبل. فما كان من الضابط إلا أن ينفجر غضبًا ويضرب محمد بكل شراسة حتى فقد الوعي هو كذلك.
فتح الضابط باب الزنزانة وقال: “علي، سمعت أنك العاقل بينهم… بس قول أن صالح هو اللي أطلق النار واخرج من هذا الباب ومانت شايف وجهي بعد اليوم.”
ماذا؟ سمع؟ كيف له أن يعرف عني أي معلومات؟
وكيف لي أن أقبل هذا العرض! أؤمن بأن صالح تاب وتوقف ومحمد لن يدعم صالح في أمرٍ غبي كهذا، لكن ماذا لو أن صالح عاد لعادته، فالتائب مهما تاب عودته للذنب معقولة. أأخبر عنهم وأعود لأهلي؟ لكن ماذا أخبر الناس؟ لا! لا! لا! هذا المقلب لم يعد يستحمل.
“صالح، قوم خلاص، خلص المقلب أنت والعسكري ذا خويك” قلتها وأنا أضحك بشكل هستيري.
مسك الضابط بأعلى قميصي ورفعني إلى الجدار وبدأ يصرخ في وجهي: “تحسبنا نمزح؟ تحسبنا نمزح؟” ولكمني في وجهي.
“علي، عندك دقيقتين، صبري خلص… إما تعترف على صالح ومحمد وتخرج من هالباب أو تسكت وتعيش هنا للأبد.”
سأعترف وأقول بأنه سلاح صالح، لم أعش يومًا في غرفة صغيرة فضلًا عن أن أعيش في زنزانة مظلمة كهذه. لم أرى الخير منذ تعرفت عليه، يستحقها صالح، يستحق العقاب. لكنه لم يفعلها، لا أعتقد أنه فعلها! أين له بالدمية؟ أين له بالسلاح؟ كنت ألازمه! لا يعقل! كيف لي أن أعيش بضميرٍ موجع إذا خرجت، لا يمكن! لن أعترف بهتانًا.
“ثلاثين ثانية ياعلي… تسعة وعشرين ثانية…”
يارب، ما هذا العقاب… ماذا فعلت! لابد أن أعترف، سأخرج وأدافع عنهم وأقول بأني قد غُصِبت على الإعتراف ولكني لن أعيش هنا، ولكنهم بريئين! محمد خصوصًا! آه يا رأسي! أريد أن أعيش لا أريد المذلّة أريد أن أعيش!
“خلاص بأعترف! خلاص خلاص…” قلتها خائفًا.
“كنت أدري أنك العاقل!” قالها وهو يخرج جهاز تسجيل صوت من جيبه. “كل اللي أبغاه منك تقول ‘صالح هو الذي أطلق بالسلاح وبصماتنا عليه ولكني أنا ومحمد لم نستخدمه’ وتمشي من هذا الباب إلى العالم”
“صالح هو الذي أطلق بالسلاح وبصماتنا عليه ولكني أنا ومحمد لم نستخدمه” قلتها بسرعة مستعجلًا بالخروج.
الزنزانة هي الزنزانة، الظلمة هي الظلمة، لم يعد الباب مفتوحًا. استيقظت متألمًا إثر ضربة من الضابط بكعب السلاح على رأسي. لم يعد هنا أحد غيري أنا وصالح ومحمد، ماهي إلا ثواني من يقظتي حتى تلقيت ضربة قوية من محمد.
“أجل افتريت علينا ياكلب وقلت أنه صالح الي أطلق، ياللي ماتخاف ربك!” قالها محمد غاضبًا
“لكن صالح يستاهل! كنت أبي نخرج أنا وأنت لكن الضابط ماكان راضي! صالح هو رأس البلاوي كلها، أنا وياك أبرياء ياغبي. صالح يستحق كل سيئ يحصل في الحياة! هذا موب السلاح اللي قتل به ناصر؟ لكن وش الصدف أننا ننمسك في نفس المكان اللي مات فيه ناصر؟ في الذكرى الرابعة لموته؟” أكلم محمد
“معقولة يدرون يا علي؟ ما أحد كان فيه ذاك اليوم! إحنا الوحيدين اللي كنا في نفس الموقع” يرد محمد متوترًا.
“لا! ما أتوقع، لابد أنها مشكلة سوء تفاهم وستحل قريبًا إن شاء الله.”
دخل ضابط آخر ووضع لنا الخبز والعدس وهو يضحك ويقول: “الضابط أحمد يقول منتم خارجين، كلوا في النعمة بس قبل تنحرمون منها.”
كم اشتقت لناصر، لا أعلم كيف سكتُّ عن قتله، لم يكن يستحق القتل وإن كان هناك من يستحق القتل فهو صالح! يارباه، سامحنا على مافعلنا، واخرجنا من هنا سالمين. آه ياناصر، ياما حذرتني منهم، وكنت دائمًا ما تخبرني بأن أخيك أحمد يقول لك بأن تبتعد عن أمثال هؤلاء… أحمد؟ ناصر…
“محمد، محمد، ألم يكن أخو ناصر ضابط؟”
“أحمد؟ إيه…”